فصل: الجملة السادسة في أيام الأسبوع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة السادسة في أيام الأسبوع:

وفيها أربعة مدارك:
المدرك الأول في ابتداء خلقها وأصل وجودها وقد نطق القرآن الكريم بذكر ستة أيام منها على الإجمال والتفصيل أما الإجمال فقال تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام}.
وأما التفصيل فقوله تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين}، والمراد بالأربعة الأولى بما فيها من اليومين المتقدمين، ومثله في كلام العرب كثير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نام أحدكم جاء الشيطان فعقد تحت رأسه ثلاث عقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدتان، فإذا صلى انحلت الثالثة» فالمراد بقوله عقدتان عقدة والعقدة الأولى، وقد ظهر بذلك أن المراد من الآية ستة أيام فقط، وهو ما ورد به صريح الآيات في غير هذه الآية أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقد ورد ذلك مبيناً فيما رواه ابن جرير من رواية ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، تسأله عن خلق السموات والأرض، فقال: «خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء المدائن والشجر والعمران والخراب، فهذه أربعة أيام، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة» قالت اليهود: ثم ماذا؟ قال: «{ثم استوى على العرش}» قالوا: أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فنزل {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره: وفيه غرابة، ولا ذكر في هذا الحديث ليوم السبت في أول الخلق ولا في آخره، نعم ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» قال ابن كثير: وهو من غرائب الصحيح، وعلله البخاري في تاريخه فقال: رواه بعضهم عن أبي هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح، فقد ورد التصريح في هذا الحديث بذكر الأيام السبعة ووقوع الخلق فيها. قال أبو جعفر النحاس: زعم محمد بن إسحاق أن هذا الحديث أولى من الحديث الذي قبله، واستدل بأن الفراغ كان يوم الجمعة، وخالفه غيره من العلماء الحذاق النظار. وقالوا: دليله دليل على خطئه، لأن الخلق في ستة أيام يوم الجمعة منها كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الجماعة، فلو لم يدخل في الأيام لكان الخلق في سبعة وهو خلاف ما جاء به التنزيل؛ على أن أكثر أهل العلم على حديث ابن عباس، فتبين أن الابتداء يوم الأحد إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام كما في التنزيل. قال أبو جعفر: على أن الحديثين ليسا بمتناقضين، لأنا إن عملنا على الابتداء بالأحد فالخلق في ستة أيام وليس في التنزيل أنه لا يخلق بعدها شيئاً، وإن عملنا على الابتداء بالسبت فليس في التنزيل أنه لم يخلق قبلها شيئاً.
إذا علمت ذلك فقد حكى أبو جعفر النحاس أن مقدار كل يوم من أيام خلق السموات والأرض ألف سنة من أيام الدنيا، وأنه كان بين ابتدائه عز وجل في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابة كل ما هو كائن إلى قيام الساعة يوم وهو ألف عام، فصار من ابتداء الخلق إلى انتهائه سبعة آلاف عام، وعليه يدل قول ابن عباس: إن مدة إقامة الخلق إلى قيام الساعة سبعة أيام كما كان الخلق في سبعة أيام.
قال أبو جعفر: وهذا باب مداره على النقل دون الآراء.
المدرك الثاني في أسمائها. وقد اختلف في ذلك على ثلاث روايات الرواية الأولى: ما نطقت به العرب المستعربة من ولد إسماعيل عليه السلام وجرى عليه الاستعمال إلى الآن: وهو الأحد والاثنان والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت.
والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله عز وجل خلق يوماً واحداً فسماه الأحد، ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء، ثم خلق خامساً فسماه الخميس. ولا ذكر في هذه الرواية للجمعة والسبت. وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} وقال جل وعز: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً}. وسيأتيان في غير هذه الرواية عند ذكر الاختلاف فيما ابتدئ فيه الخلق منها.
فالأحد بمعنى واحد ويقال بمعنى أول ورجحه النحاس، وهو المطابق لتسمية الثاني بالاثنين، والثالث بالثلاثاء، وقيل أصله وحد بفتح الواو والحاء كما أن أناة أصلها وناة، ويجمع في القلة على آحاد وأحدات، وفي الكثرة على أحود وأوحاد ويحكى في جمعه أحد أيضاً قال النحاس: كأنه جمع الجمع.
والاثنان بمعنى الثاني. قال النحاس: وسبيله ألا يثنى، وأن يقال فيه: مضت أيام الاثنين إلا أن تقول ذوات، قال: وقد حكى البصريون الأثن والجميع الثني. وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب: إن شئت أن تجمعه فكأنه مبني للواحد قلت أثانين. وحكى النحاس مثله عن كتاب الفراء في الأيام وقال: إنما يجوز على حيلة بعيدة، وهي أن يقال: اليوم الاثنانُ فتضم النون فتصير مائل عمران فتثنيه وتجمعه على هذا. وحكي عن الفراء أيضاً في جمع الكثرة أثان فتقول مضت أثانٍ مثل أسماء وأسامٍ، قال: وقرأت على أبي إسحاق في كتاب سيبويه فيما حكاه اليوم الثني فتقول على هذا في الجمع الأثناء.
والثلاثاء بمعنى الثالث، ويجمع على ثلاثاوات، وحكى الفراء أثالث، قال النحاس: ويجوز أثاليثُ، وكذا ثلاثثُ مثل جمع ثلاثة لأن ألفي التأنيث كالهاء، وتقول فيه: مضت الثلاثاء على تأنيث مثل جمع ثلاثة لأن ألفي التأنيث كالهاء، وتقول فيه: مضت الثلاثاء على تأنيث اللفظ ومضى على تذكير اليوم، وكذا في الجمع تقول مضت ثلاث ثلاثاوات، وثلاثة ثلاثاوات.
والأربعاء بمعنى الرابع، ويجمع على أربعاوات وكذا أرابيع والياء فيه عوض ما حذف، فإن لم تعوض قلت أرابع؛ وأجاز الفراء أربعاءات مثل ثلاثاءات ومنعه البصريون للفرق بين ألف التأنيث وغيرها.
والخميس بمعنى الخامس، ويجمع في القلة على أخمسة، وفي الكثرة على خمس وخمسان كرعف ورعفان، ويقال أخمساء كأنصباء، وحكي عن الفراء في الكثرة أخامس.
والجمعة بضم الميم وإسكانها ومعناها الجمع؛ واختلف في سبب تسميته بذلك فقال النحاس: لاجتماع الخلق فيه، وهذا ظاهر في أن الاسم كان بها قديماً؛ وقيل لاجتماع الناس للصلاة فيه؛ ثم اختلف فقيل سميت بذلك في الجاهلية واحتج له بما حكاه أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: أن أول من سمى الجمعة جمعة كعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه جمع قريشاً وخطبهم فسميت جمعة وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا العروبة. وقيل إنما سميت بذلك في الإسلام وذلك أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه بعد كل ستة أيام، وللنصارى كذلك فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي، فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوا يوم العروبة لنا، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة الأنصاري فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله تعالى سورة الجمعة. على أن السهيلي قد قال في الروض الأنف: إن يوم الجمعة كان يسمى بهذا الاسم قبل أن يصلي الأنصار الجمعة.
أما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكاه صاحب الأوائل فإنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل على بني عمرو بن عوف وأقام عندهم أياماً ثم خرج يوم الجمعة عائداً إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى بهم الجمعة. وتجمع على جمع وجمعات بالفتح والتسكين.
والسبت ومعناه القطع، بمعنى قطع فيه الخلق على رأي من يرى أن السبت آخر أيام الجمعة، وأنه لا خلق فيه على ما سيأتي ذكره. وقول النحاس إنه مشتق من الراحة أيضاً لا عبرة به لمضاهاة قول اليهود فيه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويجمع في القلة على أسبت وسبتات بالتحريك، وفي الكثرة على سُبُوت بضم السين مثل قَرْح وقُرُوح.
الرواية الثانية: ما يروى عن العرب العاربة من بني قحطان وجرهم الأولى: وهو أنهم كانوا يسمون الأحد الأول لأنه أول أعداد الأيام ويسمون الاثنين أهون أخذاً من الهمون والهوينى، وأوهد أيضاً أخذ من الوهدة وهي المكان المنخفض من الأرض لانخفاضه عن اليوم الأول في العدد. ويسمون الثلاثاء جُباراً بضم الجيم لأنه جبر به العدد. ويسمون الأربعاء دُباراً بضم الدال المهملة لأنه دبر ما جبر به العدد بمعنى أنه جاء دبره، ويسمون الخميس مؤنساً يؤنس به لبركته، قال النحاس: ولم يزل ذلك أيضاً في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبرك به ولا يسافر إلا فيه وقال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم خميسها» ويسمون الجمعة العَروبة بفتح العين مع الألف واللام وفي لغة شاذة عَروبة بغير ألف ولام مع عدم الصرف، ومعناه اليوم البين أخذاً من قولهم: أعرب إذا أبان، والجواد أنه بين العظمة والشرف، إذ لم يزل معظماً عند أهل كل ملة وجاء الإسلام فزاده تعظيماً؛ وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها». ويسمونه أيضاً حربة بمعنى أنه مرتفع عال كالحربة التي هي كالرمح، كما يقال محراب لارتفاعه وعلو مكانته، ويسمون السبت شَياراً بفتح الشين المعجمة وكسرها مع الياء المثناة تحت أخذاً من شرت الشيء إذا استخرجته وأظهرته من مكانه، إما بمعنى أنه استخرج من الأيام التي وقع فيها الخق على مذهب من يرى أنه آخر أيام الأسبوع وأن ابتداء الخلق الأحد وانتهاءه الجمعة، وإما بمعنى أنه ظهر أول أيام الجمعة على مذهب من يرى أنه أول الجمعة وكان ابتداء الخلق فيه، وإلى هذه الأسماء يشير النابغة بقوله:
أؤمل أن أعيش وأن يومي ** لأول أو لأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته ** فمونس أو عروبة أو شيار

الرواية الثالثة: ما حكاه النحاس عن الضحاك: أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت. وقد حكى السهيلي رحمه الله أن الأسماء المتداولة بين الناس الآن مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن الناس قبل ذلك لم يكونا يعرفون إلا الأسماء التي وضعتها العرب العاربة وهي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت التي خلق الله تعالى فيها سائر المخلوقات: علويها وسفليها. وهذا يخالف ما تقدم في الرواية الثانية عن العرب العاربة؛ وعلى أنها أسماء للأيام التي وقع فيه الخلق يحتمل أن يكون أبجد اسماً لأحد على مذهب من يرى أن ابتداء الخلق يوم الأحد ويكون السبت لا ذكر له في هذه الرواية.
المدرك الثالث في بيان أول أيام الأسبوع. وما كان فيه ابتداء الخلق منها.
وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: أن أول أيام الأسبوع وابتداء الخلق الأحد. واحتج لذلك بما تقدم من حديث ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: «خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد» الحديث وبحديثه الآخر: «خلق الله يوماً واحداً فسماه الأحد» وإذا كان ابتداء الخلق الأحد لزم أن يكون أول الأسبوع الأحد.
المذهب الثاني: أن أول أيام الأسبوع وابتداء الخلق السبت. واحتج له بحديث أبي هريرة المتقدم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت» الحديث، وإذا كان ابتداء الخلق السبت لزم أن يكون أول الأسبوع السبت. المذهب الثالث: أن أول أيام الأسبوع الأحد، لحديث: «خلق الله يوماً واحداً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين» الحديث. وابتداء الخلق يوم السبت لحديث أبي هريرة المتقدم. قال النحاس: وهذا أحسنها.
المدرك الرابع في التفاؤل بأيام الأسبوع والتطير بها وما يعزى لكل منها من خير أو شر. على ما هو مدأول بين الناس واعلم أنه لا أصل لذلك من الشريعة، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة.
وقد وردت القرعة عن جعفر الصادق رضي الله عنه في توزيع الأعمال على الأيام أنه قال: السبت يوم مكر وخديعة؛ ويوم الأحد يوم غرس وعمارة؛ ويوم الاثنين يوم سفر وتجارة؛ ويوم الثلاثاء يوم إراقة دم وحرب ومكافحة؛ ويوم الأربعاء يوم أخذ وعطاء؛ ويقال: يم نحس مستمر؛ ويم الخميس يوم دخول على الأمراء وطلب الحاجات؛ ويوم الجمعة يوم خلوة ونكاح. ووجهوا هذه الدعوى بأن قريشاً مكرت في دار الندوة يوم السبت، وأن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وأن شعيباً سافر للتجارة يوم الاثنين، وأن حواء حاضت يوم الثلاثاء، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه، وأن فرعون غرق هو وقومه يوم الأربعاء، وفيه أهلك الله عاداً وثموداً، وأن إبراهيم دخل على النمرود يوم الخميس، وأن الأنبياء عليهم السلام كانت تنكح وتخطب يوم الجمعة. وقد نظم بعض الشعراء هذه الاختيارات في أبيات وإن كان قد خالف الواضع في مواضع فقال:
لنعم اليوم يوم السبت حقاً ** لصيد إن أردت بلا امتراء

وفي الأحد البناء فإن فيه ** تبدى الله في خلق السماء

وفي الاثنين إن سافرت فيه ** سترجع بالنجاح وبالغناء

وإن ترد الحجامة في الثلاثاء ** ففي ساعاته هرق الدماء

وإن شرب امرؤ منكم دواء ** فنعم اليوم يوم الأربعاء

وفي يوم الخميس قضاء حاج ** فإن الله يأذن بالقضاء

ويوم الجمعة التزويج حقاً ** ولذات الرجال مع النساء

وسيأتي الكلام على ما يتعلق من ذلك بأيام الشهر في الكلام على الشهور في الفصل السابع من الكتاب إن شاء الله تعالى.

.الطرف الثاني في الشهور:

وهي على قسمين طبيعي واصطلاحي:

.القسم الأول: الطبيعي والمراد به القمري:

وهو مدة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى حين يفارقها مرة أخرى، وهي على ضربين:
الضرب الأول شهور العرب والشهر العربي عبارة عما بين رؤية الهلال إلى رؤيته ثانياً، وعدد أيامه تسعة وعشرون يوماً ونصف يوم على التقريب، ولما كان هذا الكسر في العدد عسراً عدوا جملة الشهرين تسعة وخمسين يوماً، أحدهما ثلاثون وهو التام، والآخر تسعة وعشرون وهو الناقص. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف لا يدخل على بعض نسائه شهراً فلما مضى تسعة وعشرون غدا عليهم أو راح فقيل: يا رسول الله، حلفت لا تدخل عليهن شهراً فقال: «الشهر يكون تسعة وعشرين»، وذلك بحسب مسير النيرين: الشمس والقمر بالمسير الأوسط، أما بالمسير المقوم فإنه يتفق إذا استكمل الشهر برؤية الهلال عياناً أن يتوالى شهران وثلاثة تامة، وتتوالى كذلك ناقصة، وعلى ذلك عمل العرب واليهود. ولهم في استعماله طريقتان: الطريقة الأولى طريقة العرب ومدة الشهر عندهم من رؤية الهلال إلى رؤية الهلال، وهي أسهل الطرق وأقربها، وعليها جاء الشرع، وبها نطق التنزيل قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} وفيها جملتان:
الجملة الأولى في أحوال الأهلة التي عليها مدار الشهور في ابتدائها وانتهائها واعلم أن مسير القمر مقدر بمعرفة الشهور والسنين قال تعالى: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} والشمس تعطيه في كل ليلة ما يستضيء به نصف سبع قرصه حتى لا يبقى فيه نور فيستتر. ويروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن القمر فقال: يمحق كل ليلة ويولد جديداً؛ ويبعد مثل هذا عن جعفر الصادق.
إذا علمت ذلك فللقمر حركتان: سريعة وبطيئة كما تقدم في الشمس.
أما الحركة السريعة فحركة فلك الكل به من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق في اليوم والليلة.
واعلم أن الهلال إذا طلع مع غروب الشمس كان مغيبه على مضي ستة أسباع ساعة من الليل، ولا يزال مغيبه يتأخر عن مغيبه في كل ليلة ماضية هذا المقدار حتى يكون مغيبه في الليلة السابعة نصف الليل، وفي الليلة الرابعة عشرة طلوع الشمس، ثم يكون طلوعه في الليلة الخامسة عشرة على مضي ستة أسباع ساعة منها، ولا يزال طلوعه يتأخر عن طلوعه في كل ليلة ماضية بعد الإبدار هذا المقدار حتى يكون طلوعه ليلة إحدى وعشرين نصف الليل، وطلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة.
وإذا أردت أن تعلم على مضي كم من الساعات يغيب أو يطلع من الليل، فإن أردت المغيب وكان قد مضى من الشهر خمس ليال تقديراً فاضربها في ستة تكون ثلاثين فأسقطها سبعة سبعة يبقى اثنان فيكون مغيبه على مضي أربع ساعات وثلاثة أسباع ساعة، وكذلك العمل فلفي أي ليلة شئت، وإن أردت الطلوع وكان قد مضى من الإبدار ست ليال مثلاً فاضرب ستة في ستة يكون ستة وثلاثين فأسقطها سبعة سبعة يبقى واحد، فيكون طلوعه على خمس ساعات وسبع، وكذلك العمل في أي ليلة شئت.
وقد قسمت العرب ليالي الشهر بعد استهلاله كل ثلاثة أيام قسماً وسمتها باسم، فالثلاث الأول منها هلال، والثلاث الثانية قمر، والثلاث الثالثة بهر، والثلاث الرابعة زهر والزهر البياض، والثلاث الخامسة بيض، لأن الليالي تبيض بطلوع القمر فيها من أولها إلى آخرها والثلاث السادسة درع، لأن أوائلها تكون سواداً وسائرها بيض، والثلاث السابعة ظلم، والثلاث الثامنة حنادس، والثلاث التاسعة دآدئ الواحدة منها دأدأة على وزن فعللة، والثلاث العاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار لإمحاق الشمس والقمر فيها.
ومنهم من يقول: ثلاث غرر وغرة كل شيء أوله، وثلاث شهب، وثلاث زهر، وثلاث تسع، لأن أخر يوم منها اليوم التاسع، وثلاث بهر، بهر فيها ظلام الليل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث دهم وفحم وحنادس، وثلاث دآدئ.
ويروى عنهم أنهم يسمون ليلة ثمان وعشرين الدعجاء، وليلة تسع وعشرين الدهماء، وليلة ثلاثين الليلاء، وهم يقولون في أسجاعهم: القمر ابن ليلة، رضاع سخيلة، حل أهلها برميلة؛ وابن ليلتين حديث أمتين، كذب ومين؛ وابن ثلاث، قليل اللباث، وابن أربع عتمة أم ربع، لا جائع ولا مرضع؛ وابن خمس، حديث وأنس، وعشاء خلفات فعس، وابن ست، سروبت؛ وابن سبع، دلجة ضبع، وحديث وجمع؛ وابن ثمان، قمر إضحيان؛ وابن تسع، محذو النسع، ويقال الشسع ابن عشر، مخنق الفجر، وثلث الشهر.
هذا هو المحظوظ عن العرب في كثير من الكتب.
قال صاحب مناهج الفكر: وعثرت في بعض المجاميع على زيادة إلى آخر الشهر، وكأنها والله أعلم مصنوعة، وهي على ألسنة العرب موضوعة، وهي: وابن إحدى عشرة، يرى عشاء ويرى بكرة، وابن اثنتين عشرة، مرهق البشر، بالبدو والحضر، وابن ثلاث عشرة، قمر باهر، يعشي الناظر، وابن أربع عشر مقبل الشباب، مضيء دجنات السحاب، وابن خمس عشرة تم التمام، ونفدت الأيام، وابن ست عشرة نقص الخلق في الغرب والشرق، وابن سبع عشرة، أمكنت المقفرة، وابن ثمان عشرة قليل البقاء، سريع الفناء؛ وابن تسع عشرة بطيء الطلوع، سريع الخشوع؛ وابن عشرين يطلع سحرة، ويغيب بكرة؛ وابن إحدى وعشرين كالقبس، يطلع في الغلس، وابن اثنتين وعشرين يطيل السرى، ريثما يرى؛ وابن ثلاث وعشرين يرى في ظلمة الليال، لا قمر ولا هلال؛ وابن خمس وعشرين دنا الأجل، وانقطع الأمل؛ وابن ست وعشرين دنا ما دنا، فما يرى إلا سنا، وابن سبع وعشرين يشق الشمس، ولا يرى له حس، وابن ثمان وعشرين ضئيل صغير لا يراه إلا البصير.
وأما حركته البطيئة، فحركته من جهة الشمال إلى جهة الجنوب، ومن جهة الجنوب إلى جهة المال، وتنقله في المنازل الثمانية وعشرين في ثمانية وعشرين يوماً بلياليلها كالشمس في البروج قال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} فما تقطعه الشمس من الشمال إلى الجنوب وبالعكس في جميع السنة يقطعه القمر في ثمانية وعشرين يوماً. والمنازل للقمر كالبروج للشمس، وذلك أنه لما اتصل إلى العرب ما حققه القدماء برصدهم من الكواكب الثابتة، وكان لا غنى لهم عن معرفة كواكب ترشدهم إلى العلم بفصول السنة وأزمنتها، رصدوا كواكب وامتحنوها، ولم يستعملوا صور البروج على حقيقتها، لأنهم قسموا فلك الكواكب على مقدار الأيام التي يقطعه القمر فيها، وهي ثمانية وعشرون يوماً، وطلبوا في كل قسم منها علامة تكون أبعاد ما بينها وبين العلامة الأخرى مقدار مسير القمر في يوم وليلة، وسموها منزلة إلى أن تحقق لهم ثمانية وعشرون على ما تقدم ذكره في الكلام على طلوعها بالفجر، لأن القمر إذا سار سيرة الوسط انتهى في اليوم التاسع والعشرين إلى المحاق الذي بدأ منه، فحذفت المتكرر فبقي ثمانية وعشرون ويزاد بالشرطين، لأن كواكبه من جملة كواكب الحمل الذي هو أول البروج.
ثم هذه المنازل على قسمين: شمالي وجنوبي كما في البروج، وكل قسم منها أربع عشرة منزلة. فالشمالي منها ما كان طلوعه من ناحية الشام، وتسمى الشامية وهو ما كان منها من نقطة الاعتدال، التي هي رأس الحمل والميزان صاعداً إلى جهة الشمال؛ وهي الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، ولاهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والخرتان، والصرفة، والعواء، والسماك، وبطلوعها يطول الليل ويقصر النهار. الجنوبي منها ما كان طلوعه من ناحية اليمن وتسمى الميانية وهو ما كان منها من نقطة الاعتدال المذكور هابطاً إلى جهة الجنوب؛ وهي الغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت؛ وبطلوعها يقصر الليل ويطول النهار.
ثم المنزلة عند المحققين قطعة من الفلك مقدارها ربع سبع الدور، وهو جزء من ثمانية وعشرين جزءاً من الفلك عبارة عن..................... لا عن الكواكب وإنما الكواكب حدود تفرق بين كل منزلة وأخرى فعدل بالتسمية إليها وغلبت عليها.
ونزول القمر في هذه المنازل على ثلاثة أحوال: إما في المنزلة نفسها وإما فيما بينها وبين التي تليها، وإما محاذياً لها خارجاً عن السمت شمالاً أو جنوباً. وقد تقدم الكلام على عدول القمر عن بعض المنازل ونزوله في غيرها.
ولتعلم أن المنازل مقسومة على البروج الأثني عشر موزعة علهيا، فالشرطان والبطين وثلث الثريا للحمل، وثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة للثور، وثلث الهقعة والهنعة والذراع للجوزاء، والنثرة والطرف وثلث الجبهة للسرطان، وثلثا الجبهة والخرتان وثلثا الصرفة للأسد، والصرفة والعواء والسماك للسنبلة؛ والغفر والزبان وثلث الإكليل للميزان، وثلثا الإكليل والقلب وثلثا الشولة للعقرب؛ وثلث الشولة والنعائم والبلدة للقوس، وسعد الذابح وسعد بلغ وثلث سعد السعود للجدي، وثلث الفرغ المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت للحوت.
إذا علمت ذلك فإذ أردت أن تعرف القمر في أي منزلة هو أو كم مضى له فيها من الأيام، فخذ ما مضى من سنة القبط شهوراً كانت أو أياماً أو شهوراً وأياماً وابسطها أياماً، وأضف إلى ما حصل من ذلك يومين، ثم اطرح الجموع ثلاثة عشر ثلاثة عشر، وهو عدد لبث القمر في كل منزلة من الأيام، واجعل أول كل منزلة من العدد الخرتان، فما بقي من الأيام دون الثلاثة عشر فهو عدد ما مضى من المنزلة التي انتهى العدد إليها.
مثال ذلك أن يمضي من سنة القبط شهر توت وأربعة أيام من بابه فتبسطها أياماً تكون أربعة وثلاثين يوماً فتضيف إليها يومين تصير ستة وثلاثين يوماً فاطرح منها ثلاثة عشر مرتين بستة وعشرين للخرتان منها ثلاثة عشر وللصرفة ثلاثة عشر تبقى عشرة، وهي ما مضى من المنزلة الثالثة وهي العواء.
وإن أردت أن تعرف في أي برج هو فاحسب كم مضى من الشهر العربي يوماً وزد عليه مثله ثم زد على الجملة خمسة وأعط لكل برج خمسة وابدأ من البرج الذي فيه الشمس فأعط لكل برج خمسة فأينما نفد حسابك فالقمر في ذلك البرج والاعتماد في ذلك على كم مضى من الشهر العربي بالحساب دون الرؤية، والله أعلم.
الجملة الثانية في أسمائها، وفيها روايتان:
الرواية الأولى: ما نطقت به العرب المستعربة وجرى عليه الاستعمال إلى الآن وقد نطق القرآن الكريم بصدقها قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض} والمراد شهور العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، ومدارها الأهلة سواء جاء الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين. الشهر الأول منها المحرم؛ سمي بذلك لأنهم كانوا يحرمون فيه القتال، وبجمع على محرمات ومحارم ومحاريم. الشهر الثاني صفر، سمي بذلك لأنهم كانوا يغيرون فيه على بلاد يقال لها الصفرية، ويجمع على صفرات وأصفار وصفور وصفار. الشهر الثالث ربيع الأول سمي بذلك لأنهم كانوا يحصلون فيه ما أصأبوه في صفر، والربيع في اللغة الخصب، وقيل لارتباعهم فيه؛ قال النحاس: والأول أولى بالصواب، ويقال في التثنية ربيعان الأولان وفي الجمع ربيعات الأولات، ومن شرط فيه إضافة شهر قال ف يالتثنية شهرا ربيع الأولان وفي الجمع شهرات ربيع الأولات والأوائل، وإن شئت قلت في القليل أشهر وفي الكثير شهور، وحكي عن قطرب الأربعة الأوائل، وعن غيره ربع الأوائل. الشهر الرابع ربيع الآخر، والكلام في تسميته وتثنيته وجمعه كالكلام في ربيع الأول. الشهر الخامس جمادى الأولى، سمي بذلك لجمود الماء فيه، لأن الوقت الذي سمي فيه بذلك كان الماء فيه جامداً لشدة البرد، ويقال في التثنية جماديان الأوليان وفي الجمع جماديات الأوليات. الشهر السادس جمادى الآخرة، والكلام فيه تسمية وتثنية وجمعاً كالكلام في جمادى الأولى. الشهر السابع رجب، سمي بذلك لتعظيمهم له أخذاً من الترجيب وهو التعظيم، ويجمع على رجبات وأرجاب، وفي الكثرة على رجاب ورجوب. الشهر الثامن شعبان، سمي بذلك لتشعبهم فيه لكثرة الغارات عقب رجب؛ وقيل لتشعب العود في الوقت الذي سمي فيه. وقيل لأنه شعب بين شهري رجب ورمضان ويجمع على شعبانات وشعابة على حذف الزوائد، وحكى الكوفيون شعابين، قال النحاس: وذلك خطأ على قول سيبويه كما لا يجوز عنده في جمع عثمان عثامين. الشهر التاسع رمضان، سمي بذلك أخذاً من الرمضاء لأنه وافق وقت تسميته زمن الحر، ويجمع على رمضانات، وحكى الكوفيون رماضين، والقول فيه كالقول في شعابين، ومن شرط فيه لفظ شهر قال فل التثنية: شهرا رمضان وفي الجمع شهرات رمضان وأشهر رمضان وشهور رمضان. الشهر العاشر شوال، سمي بذلك أخذاً من شالت الإبل بأذنابها إذا حملت لكونه أول شهور الحج، وقيل من شال يشول إذا ارتفع، ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الإشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك؛ قالت عائشة رضي الله عنها فيما ثبت في صحيح مسلم: «تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني» ويجمع على شوالات وشواويل وشوأول. والشهر الحادي عشر ذو القعدة، ويقال بالفتح والكسر، سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال لكونه من الأشهر الحرم، ويجمع على ذوات القعدة، وحكى الكوفيون أولات القعدة، وربما قالوا في الجمع: ذات القعدة أيضاً. الشهر الثاني عشر ذو الحجة، سمي بذلك لأن الحج فيه، والكلام في جمعه كالكلام في ذي القعدة. ثم من الأشهر المذكورة أربعة أشهر حرم كما قال الله تعالى: {منها أربعة حرم} وقد اجمعت العلماء على أن الأربعة المذكورة هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقد اختلف في الابتداء بعددها فذهب أهل المدينة إلى أنه يبتدأ بذي القعدة فيقال: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب؛ ويحتجون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم عدها في خطبة حجة الوداع كذلك فقال: «السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» واختاره أبو جعفر النحاس. وذهب أهل الكوفة إلى أنه يبتدأ بالمحرم فيقال: المحرم رجب وذو القعدة وذو الحجة ليأتوا بها من سنة واحدة وإليه ميل الكتاب. قال النحاس: ولا حجة لهم فيه لأنه إذا علم أن المقصود ذكرها في كل سنة فكيف يتوهم أنها من سنتين. وكانت العرب في الجاهلية مع ما هم عليه من الضلال والكفر يعظمون هذه الأشهر ويحرمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل فيها قاتل أبيه لم يهجه، إلى أن حدث فيهم النسيء فكانوا ينسئون المحرم فيؤخرونه إلى صفر فيحرمونه مكانه وينسئون رجباً فيؤخرونه إلى شعبان فيحرمونه مكانه ليستبحوا القتال في الأشهر الحرم. ا القتال في الأشهر الحرم.
واعلم أنه يجوز أن يضاف لفظ شهر إلى جميع الأشهر فيقال: شهر المحرم، وشهر صفر، وشهر ربيع الأول وكذا في البواقي، على أن منها ثلاثة أشهر لم تكد العرب تنطق بها إلا مضافة إليها، وهي شهر ربيع وشهر رمضان؛ ويؤيد ذلك في رمضان ما ورد به القرآن من إضافته، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وقد روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال: لا تقل رمضان ولكن قل كما قال الله عز وجل: شهر رمضان، فإنك لا تدري ما رمضان وعن عطاء نحوه وأنه قال: لعل رمضان اسم من اسماء الله تعالى؛ لكن قد ثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان أغلقت النيران وصفدت الشياطين» الحديث. وهذا صريح في جواز تعريته عن الإضافة.
وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب أصحابها أنه يجوز تعريته عن لفظ شهر مطلقاً، سواء قامت قرينة أم لا، فيقال جاء رمضان وصمت رمضان، وما أشبه ذلك وهو ما رجحه النووي في شرح مسلم، والثاني المنع مطلقاً، والثالث إن حفت قرينة تدل على الشهر كما في قوله: صمت رمضان فقد جازت التعرية، وإن لم تحف قرينة لم تجز؛ وزاد بعضهم فيما يضاف إليه لفظ شهر رجب أيضاً، وقال كل شهر في أوله حرف راء فلا يقال إلا بالإضافة. ويقال في المحرم أيضاً شهر الله المحرم ويقال في الربيعي: ربيع الأول وربيع الآخر، وفي الجماديين: جمادى الأولى وجمادى الآخرة، قال ابن مكي: ولا يقال جمادى الأول بالتذكير وجوزه في كلامه على تثقيف اللسان.
قال النحاس: وإنما قالوا ربيع الآخر وجمادى الآخرة ولم يقولوا ربيع الثاني وجمادى الثانية كا قالوا: السنة الأولى والسنة الثانية لأنه إنما يقال الثاني والثانية لما له ثالث وثالثة، ولما لم يكن لهذين ثالث ولا ثالثة قيل فيها الآخر والآخرة كما قيل: الدنيا والآخرة؛ على أن أكثر استعمال أهل الغرب على ربيع الثاني وجمادى الثانية. ويقال في رجب الفرد: لانفراده عن بقية الأشهر الحرم، ويقال فيه أيضاً: رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ويقال في شعبان المكرم لتكرمته وعلو قدره، وفي رمضان: المعظم والمعظم قدره لعظمته وشرفه، وفي شوال المبارك للفرق بينه وبين شعبان خشية الالتباس في الكتابة، ويقال في كل من ذي القعدة وذي الحجة الحرام. قال النحاس: وقد جاء في ذي الحجة أيضاً الأصم، وروى فيه حديثاً بسنده من رواية مرة الهمداني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله خطيباً على ناقة حمراء مخضرمة، فقال: «أتدرون أي يوم يومكم هذا؟» قلنا: يوم النحر قال: «صدقتم يوم الحج الأكبر»، أتدرون أي شهر شهركم هذا؟ قلنا: ذو الحجة قال: «صدقتم شهر الله الأصم».
الرواية الثانية: ما روي عن العرب العاربة، وهو أنهم كانوا يقولون في المحرم: المؤتمر أخذاً من أمر القوم إذا كثروا بمعنى أنهم يحرمون فيه القتال فيكثرون. وقيل أخذاً من الائتمار بمعنى أنه يؤتمر فيه بترك الحرب، ويجمع على مؤتمرات مآمر ومآمير. ويقولن في صفر: ناجر إما من النجر والنجار بفتح النون وكسرها الأصل، بمعنى أنه أصل للحرب لأنه يبتدأ فيه بعد المحرم؛ وما من النجر وهو السوق الشديد. لشدة سوقهم الخيل إلى الحرب فيه، ويجمع على نواجر. ويقولون في ربيع الآخر: وبصان، أخذاً من الوبيص وهو البريق: لبريق الحديد فيه، ويجمع على وبصانات، وحكى قطرب فيه بصان فيجمع على أبصنة وفي الكثرة بصنان. ويقولون لجمادى الأولى: حنين لأنهم يحنون فيه إلى أوطانهم لكونه كان يقع في زمن الربيع، ويجمع على أحنة كرغيف ورغف. ويقولون لجمادى الآخرة: ربى وربة لأنه يجتمع به لجماعته، ويجمع على ربيات وربايا مثل حبالى. ومن قال ربة جمعه على مآريب. ويقولون في رجب: الأصم لما تقدم من أنه لا يسمع صوت السلاح ولا الاستغاثات فيه، ويجمع على أصام. قال النحاس: ولا تقل صم لأنه ليس بنعت كما أنك لو سميت رجلاً أحمر جمعته على أحأمير ولم تجمعه على حمر. ويقولون في شعبان: عادل، بمعنى أنهم يعدلون فيه عن الإقامة لتشعبهم في القبائل ويجمع على عوادل. ويقولون في رمضان: ناتق لكثرة المال عندهم فيه لإغارتهم على الأموال في الذي قبله، ويجمع على نواتق. ويقولون في شوال: وعل أخذاً من قولهم: وعل إلى كذا إذا لجأ إليه لأنهم يهربون فيه من الغارات لأن بعده الأشهر الحرم فيلجأون فيه إلى أمكنة يتحصنون فيها، ويجمع على أوعال ككتف وأكتاف، وفي الكثرة وعول. ويقولون ي ذي القعدة: ورنة والواو فيه منقلبة عن همزة أخذاً من أرن إذا تحرك لأنه الوقت الذي يتحركون فيه إلى الحج، أو من الأرون وهو الدنو لقربه من الحج ويجمع على ورنات ووران كجفان. ويقولن ي ذي الحجة: برك، غير مصروف لأنه معدول عن بارك، أو على التكثير كما يقال: رجل حكم وهو مأخوذ من البركة لأن الحج فيه، أو من برك الجمل لأنه الوقت الذي تبرك فيه الإبل للموسم، ويجمع على بركان مثل نُغرٍ ونِغران.
وفي هذه الأسماء خلاف عند أهل اللغة والمشهور ما تقدم ذكره.
وقد نظم بعضهم ذلك في أبيات على الترتيب فقال:
بمؤتمر وناجر ابتدأنا ** وبالخوان يتبعه البصان

وربى ثم أيدة تليه ** تعود أصم صم به السنان

وعادلة وناطلة جميعاً ** وواغلة فهم غرر حسان

وورنة بعدها برك فتمت ** شهور الحول يغربها البيان

ثم للناس في إخراج أول الشهر العربي طرق، أسهلها أن تعرف أول يوم من المحرم، ثم تعد كم مضى من السنة من الشهور بالشهر الذي تريد أن تعرف أوله وتقسمها نصفين، فإن كان النصف صحيحاً أضفت على الجملة مثل نصفه، وإن كان مكسوراً كملته وأضفته على الجملة، ثم تبتدئ من أول يوم من السنة وتعد منه أياماً على توالي أسماء الأيام بعدد ما حصل معك من الأصل والمضاف، فحيث انتهى عددك فذلك اليوم هو أول الشهر.
مثال ذلك في الصحيح النصف: إن أردت أن تعرف أول يوم من شعبان وكان أول المحرم يومن الأحد مثلاً فتعد من أول المحرم إلى شعبان وتدخل شعبان في العدد فيكون ثمانية أشهر فتقسمها نصفين يكون نصفها أربعة فتضيف الأربعة إلى الثمانية تكون اثني عشر، ثم تبتدئ من يوم الأحد الذي هو أول المحرم تعد الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، ثم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فيكون انتهاء الإثني عشر في يوم الخميس فيكون أول شعبان يوم الخميس.
ومثاله في المكسور النصف: إذا أردت أن تعرف أول رمضان أيضاً وكان أول المحرم الأحد كما تقدم فتعد ما مضى من شهور السنة وتعد منها رمضان يكون تسعة أشهر فتقسمها نصفين يكون نصفها أربعة ونصفاً فتكملها بنصف تصير خمسة فنضيفها إلى الأصل المحفوظ وهو تسعة يكون المجموع أربعة عشر، ثم تبتدئ عدد الأيام من أول المحرم، وهو الأحد كما تقدم فيكون انتهاء الرابع عشر في يوم السبت فيكون أول رمضان يوم السبت.
ومن الطرق المعتبرة في ذلك أن تنظر في الثالث من أيام النسيء من شهور القبط كم يوماً مضى من الشهر العربي فما كان جعلته أصلاً لتلك السنة، فإاذ أردت أن تعرف أول شهر من الشهور العربية أو كم مضى من الشهر الذي أنت فيه فخذ الأصل المحفوظ معك لتلك السنة، وانظر كم مضى من السنة القبطية شهراً فخذ لكل شهرين يوماً، فإن انكسرت الأشهر وجاءت فرداً فاجبرها بيوم زيادة حتى تصير زوجاً، وزد على ذلك يومين أصلاً أبداً؛ ثم انظر كم يوماً مضى من الشهر القبطي الذي أنت فيه فأضفه على ما اجتمع معك، وأسقط ذلك ثلاثين فما بققي فهو عدد ما مضى من الشهر العربي، ومنه يعرف أوله.
ومثال ذلك: نظرت في الثالث من أيام النسيء فوجدت الماضي من الشهر العربي ثلاثة أيام فكانت أصلاً لتلك السنة، ثم نظرت في الشهور القبطية فوجدت الشهر الذي أنت فيه أمشير مثلاً فتعد من أول شهور السنة القبطية وهو توت إلى أمشير يكون ستة أشهر فتأخذ كل شهرين يوماً تكون ثلاثة أيام فتضيفها على الأصل الذي معك من أيام النسيء وهو ثلاثة تصير ستة فزد عليها اثنين يصير المجموع ثمانية، ثم تنظر في الشهر القبطي الذي أنت فيه وهو أمشير تجده قد مضى منه يومان فتضيفهما على المجموع يكون عشرة، وهو الماضي من الشهر العبي الذي أنت فيه ومنه يعرف أوله.
الضرب الثاني شهور اليهود والشهر عندهم من الاجتماع إلى الاجتماع، وهو اقتران الشمس والقمر في آخر الشهر ولذلك توافق شهورهم في التقدير العرب، ولا تخالف أوائلها إلا بيوم واحد في بعض الأحيان لأسباب في ملتهم ولكنها لا تطابق شهراً لشهر، فإن شهور العرب غير مكبوسة، وشهور اليهود مكبوسة، وهذه الطريقة لا تعرف إلا بتقويم الكواكب ومعرفة سير الشمس والقمر؛ ولذلك لا يعرف شهور اليهود منهم إلا الآحاد، وشهورهم وهي اثنا عشر شهراً بعضها ثلاثون، وبعضها تسعة وعشرون على ما يقتضيه مسير الشمس والقمر، وفي السن الكبيسة تكون شهورهم ثلاثة عشر شهراً كما سيأتي، وشهورهم توافق شهور السريان في بعض أسمائها دون بعض، الأول تشرى، الشهر الثاني مرحشوان، الشهر الثالث كسلا، الشهر الرابع طابات، الشهر الخامس شباط، الشهر السادس آذار، الشهر السابع نيسان، الشهر الثامن أيار، الشهر التاسع سيوان، الشهر العاشر تموز، الشهر الحادي عشر آب، الشهر الثاني عشر أيلول، وفي السنة التي يكبسون فيها بعد كل سنة أو بعد كل سنتين على ما سيأتي بيانه يكبسون شهراً كاملاً بعد آذار وهو الشهر السادس من شهورهم ويسمونه آذار الثاني، وسيأتي ذلك مفصلاً في الكلام على السنين إن شاء الله تعالى. وقد تقدم أنها توافق شهور العرب إلا في القليل إلا أنها يدخلها الكبس لأمور في ملتهم، وسيأتي الكلام على كبسهم عند ذكر السنين إن شاء الله تعالى.